الأربعاء، 13 أبريل 2011

وهي وصف داخلي لأسلوب عمل عصابات المافيـا على لسان أحد أعضاء العصابة الذي تحول إلى شاهد للشرطة وخائن لرفاقه بمعنى أنه لا يمكن لأية تسمية رمزية أن تخفـي حقيقة المجرمين !

يصعب على أي مشاهد وهو يشاهد فيلماً عن المافيـا أن لا تكون هنالك في خلفية ذاكرته مشاهد فيلم (( العرّاب - The Godfather )) - الفيلم الأمثل - وحركة وصوت ( مارلون برانـدو ) وروعنة ( جيمس كان ) والتحول المدهش في أداء ( آل باتشـينو ) ... مما يعتبره اكثر المخرجين مرجعاً لا يمكن تجاوزه أو حتى تجاهله رغم إشارة ( سكورسيزي ) إلى أنه سيستخدم نزعته الاستفزازية إلى أقصى حـد في معالجة هذا الموضوع وسيقدم نظرة جديدة لعالم المافيـا تختلف عن النظرة الاحاديـة السـائدة والتي تنظـر إلى رجال المافيـا كقتله فقط .

يحكي الفيلم قصة المجرم ( هنري هيل ) - قام بدوره ببراعة فائقة ( ري ليوتـا ) - وهو الذي يشي بأصدقائه في صفقة مع الشرطة لإنقاذ نفسه ، وهو من كان تربطه معهم علاقة مودة ومحبة وصداقة طويلة ، فمنذ البداية سيخبرنـا هيل ( إلى أبعد ما تعود بي الذاكرة ، أذكر إنني دوماً أردت أن اصبح رجل عصابة ) كما لو أنه يريد أن يصبح قسـاً !!

ويستطيع تحقيق هدفه بعد أن يعجب به المجرم ( جيمي كونوي ) - قام بدوره العملاق ( روبرت دي نيرو ) - فيدربه ليصبح فرداً منهم ...
( هنري هيل ) بعد اعترافه يروي قصته مع الجريمة منذ البداية أو بالأحرى منذ مرحلة الطفولة الأولى في أحد افقر أحياء ( نيويورك ) حيث يبدأ بالهروب من مدرسته ليعمل في كراج سيارات أجرة لأحد زعماء المافيـا ويحقق حلمه الذي يحلم به جميع صبية الحي .


وهنــا يقدم (( سكورسيزي )) نظرته الجديدة عندما يجعل عالم المافيـا ، عالماً براقاً و جميلاً في عيون الصغار مثلما نستمع إلى البطل وهو يتحدث عن مرحلة الطفولة هذه بكثير من الحماس ، فهو يردد :
( أن تصبح عضواً في العائلة كأنك تأخذ شهادة مثل شهادة قيادة السيارات ، شهادة تسمح لك بالقيام بكل ما يخطر في رأسك وتجعل الجميع يحترمونك ويهابونك ويفسحون لك الطريق سواء كانوا مسؤولين أم نجوم سينما )

أن تكون عضواً في العائلة يعني أن تصبح مهماً وقادراً على أي شيء تريده ، حيث نرى البطل يتسلق سلم الجريمة بدءاً من السرقات الصغيرة إلى التشويه والقتل العمد ، فالأبطال الثلاثة منغمسون في الفسـاد والخيانة مع الزوجـات إلى خيانة أحدهما الآخر في النهايـة .
في فيلمه هذا يقدم (( مارتن سكورسيزي )) كل ما يتقنه ويعرفه بشكل بارع كما هو معروف عنه مثل حركة الكاميرا وجمالية التصوير و السرد الروائي المبني على نحو راق حيث قسم المخرج فيلمه إلى مرحلتين :
الأولى تبتديء مع الحلم الذي يتحقق شيئاً فشيئاً ليصل للمرحلة الثانية وهي الكابوس الذي يبدأ بالإنحلال ليعصف بالمرحلة الأولى ( إنحـدار المجــد ) مرحلة الخوف من الإنهيار لكل الإمبراطورية والعيش في الظل وكأن كل الذي بناه هو قصر من رمـال ، فيصبح الحفاظ على الحياة ، والحياة فقط هو الحلم الجديد الذي يتمسك به البطل بيديه واسنانه فينطلق نحوه متخلياً عن عرف العائلة خائناً صداقته راكضاً بسرعة إلى الحلم الجديد مندفعاً له أكثر من الحلم الأول من خلال سـرد مصور بدقـة واقعيـة وبزمن تفصيلي مكثف لحياة هؤلاء الأصدقاء الخاصة وكذلك العامة .

من هنـا نرى أن الحبكة وسياق الفيلم تدور وتحاك بشكل كبير حول الأشخاص وليس حول الحدث ، فنرى حياتهم تسير بشكل اعتيادي يومي مثل أي إنسان ، يتزوجون ، يتخاصمون ، يحبون ، يكرهون ، يخافون كثيراً وبشكل لا مبرر له ، أراد ( سكورسيزي ) أن يصور كل فرد من أفراد العصابة وكأن فيه طفلاً يستيقظ ويعبر عن نفسه بعبثية ، ولكنه يبقى بشكل أو بآخر وفياً لحلمه الذي بواسطته أصبح فرداً منهم ، حب التحرر من القيود والخوف خصوصاً بطله الذي يحتفظ بأكبر قدر ممكن من البراءة وحلم الطفولة حيث تجعله - البراءة - شاهداً مضطرباً على أعمال القتل المجانية التي يقوم بها ( تومي دي فيتو )

- قام بدوره المبدع (( جو باتشي )) -

والتي تسمح له أن يكون مشاركاً فيها ولنتذكر مشهد البداية حيث نرى سيارة الأصدقاء المندفعة بسرعة جنونية في منطقة مهجورة ومع الحوار المشوق والموسيقى حيث اختلاط الجنون بفوضى العالم ... تتوقف السيارة ويترجل منها الأبطال وبصمت كأنه الموت حيث الصمت يصبح لغة ومن خلال العيون المتحاورة يفتح صندوق السيارة لنكتشف الجثة ... ويشرع (( تومي )) بإخراج سكين وغرزهـا في الجثة عدة مرات مع بوادر عنف مقزز من قبل ( هنري هيل ) ومحاولة ( كونوي ) لإيقافه ، هذا المشهد يعاد في منتصف الفيلم مما يعني تكرار الفعل وتجدد البشاعة ، ان عدم مشاركة ( هنري هيل ) في القتل وتقززه ورفضه الداخلي لهذا المنطق يجعل منه مجرماً اقل انخراطاً من الباقين في نسيج هذه العائلة ، ولكنه مع ذلك يخضع ويستفيد من نسيجها الداخلي .

وكان (( سكورسيزي )) كمن أراد تقديم (( حكمة )) ثم يمتثل لها بحكاية أو يستلخص درساً أخلاقيـاً ... ولكنه أدرك بحسه السينمائي مخاطر هذا الموقف على سردية الفيلم ، فتخلى عن ذلك في آخر لحظة فبقيت مجرد إشارة خجول غير مكتملة ، مثلما لا توجد أي قاعدة أخلاقية تعرقل سلوكهم المتطرف مثلها مثل السرقة التي قام بها (( كونوي )) والتي هي أكبر عملية سـرقة لمبالغ نقدية في تاريخ أمريكا ، والتي جرى تفاديها لتصبح مجرد مشاهد عابرة .

في المونتاج حاول (( سكورسيزي )) أن يجمع بين أسلوبين استخدمهما سابقاً وهو أسلوب الزمن المكثف ( المغلق ) وأسلوب المتابعة الافقية لسيرة الشخصيات ، ولكن عملية التوليف بين الأسلوبين جعلت إنسيابية الفيلم متوترة مما أعطى للراوي (( هنري هيل )) حضوراً متعباً فندرك أن الفيلم هو مجرد سرد عبر الــFlashBack ... لوعي البطل لذلك عندما نسير مع الفيلم وبمشاهده الأخيرة عبر صفقة ( هنري هيل ) الفاشلة في تجارة المخدرات يوحي لنا زمن الفيلم الإضافي والمكثف كأن هنالك خللاً ما في غرفة المونتاج لا يعرف ( سكورسيزي ) كيفية معالجته ، مما خلخل بدوره جمالية الفيلم لولا الأداء المتميّز و الرائع لــ( روبرت دي نيرو ) ذلك الرجل الذي يعطي ساقي البار ( 100 ) دولار كي يبقي ثلجه بارداً في القدح ، لقد أعطى ( دي نيرو ) أقصى ما يمكن أن يعطيه الممثل ( ري ليوتـا ) الذي راهن عليه المخرج وأعطاه البطولة أمام ممثلين كبار ... ونجح وكسب (( سكورسيزي )) البرهان بممثل موهوب ولكن المدهش حقاً هو (( جو باتشي )) بصوته الخشن الأجش الذي ينتقل ببرودة من النكتة البذيئة إلى القتل المرعب بطرفة عين ... وهناك أيضاً (( بول سورفينو )) القدير ، بدور صاحب الحانة ملتقى العصابة ، والجميلة (( لورين براكو )) بدور يصعد من نجوميتها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق